" متّزن"، ذلك إذا أردنا مدح والثناء على شخص ما بصفة لعلها من أفضل الصفات التي يوصف بها إنسان، وفيم يكون هذا التوازن المطلوب المحمود؟ إنه يكون بين مقوّمات متباينة هي قوام الإنسان، قد تتعاون جميعها على بلوغ هدف معين، لكنها كذلك قد تتنازع بحيث تتجه كل منها وجهة غير الوجهة التي تتجه إليها المقومات الأخريات، ولو أخذنا بالتصنيف الأفلاطوني القديم لتلك المقومات لقلنا : إنها صنوف ثلاثة، كل صنف فيها يتعلق بجزء من البدن على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز، وتلك هي شهوات البطن وعواطف القلب وحكمة الرأس، وليس من الخير لأحد أن تطمس منه الشهوة أو العاطفة أو أن يقيد منه العقل الذي هو مصدر الحكمة.
بين العقل والعاطفة نقول في أحاديثنا الجارية: إن فلانا "متّزن"، وذلك إذا أردنا مدحه والثناء عليه بصفة لعلها من أفضل الصفات التي يوصف بها إنسان، وفيم يكون هذا التوازن المطلوب المحمود؟ إنه يكون بين مقوّمات متباينة هي قوام الإنسان، قد تتعاون جميعها على بلوغ هدف معين، لكنها كذلك قد تتنازع بحيث تتجه كل منها ودهة غير الوجهة التي تتجه إليها المقومات الأخريات، ولو أخذنا بالتصنيف الأفلاطوني القديم لتلك المقومات لقلنا : إنها صنوف ثلاثة، كل صنف فيها يتعلق بجزء من البدن على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز، وتلك هي شهوات البطن وعواطف القلب وحكمة الرأس، وليس من الخير لأحد أن تطمس منه الشهوة أو العاطفة أو أن يقيد منه العقل الذي هو مصدر الحكمة. وإنما الخير كل الخير في أن تبقى هذه العناصر الثلاثة جميعا، على أن يكون بينها اتساق في طرائق السير واتحاد في الهدف، ولقد صوّر أفلاطون هذا الاتحاد وذلك الاتساق بصورة مشهورة، وهي أن تصور الشهوة والعاطفة جوادين يجران عربة، ويمسك باللجام سائق هو العقل، فلو ترك الجوادان لدفعتهما الفطرية للجموح، ولكن العقل السائق يعرف كيف يضبط منهما خطوات السير نحو الهدف المقصود، فإذا توافرت لشخص مثل هذه الحالة التي تنساق بها الشهوة والعاطفة مقيدة بشكائم العقل، قلنا عنه إنه بذلك قد اكتسب فضيلة "العدالة" – كما يسميها أفلاطون – وصفة "الاتّزان" كما نحب نحن أن نسميها لتساير أفهام الناس، في عصرنا القائم، وهذا الاتزان أو تلك العدالة، إنما يوصف بها الفرد، توصف بها الدول سواء بسواء، ففي كليهما بطن يشتهي، وفي كليهما قلب ينفعل بالعاطفة، وفي كليهما رأس يسوس. لقد استهل أفلاطون محاورة "الجمهورية" ببحث مستفيض عن تلك العدالة، وكان لابد له أن يفعل ذلك ليجعل من تلك الصفة الجوهرية أساسا يقيم عليه الدولة، التي أراد أن يقيمها. لكنه تردد لحظة: أي الطرفين يبدأ البحث ليطبق النتيجة التي ينتهي إليها على الطرف الآخر؟ يبدأ بالفرد الإنساني فيحلل خصائصه، ليكون له بذلك ما يمكن إسقاطه على بناء الدولة؟ أم يبدأ بالدولة ليستخلص من تعادل كيانها كيف يجيء الفرد الإنساني المتعادل؟ ولقد آثر هذا الاختيار الثاني. هكذا كانت الرؤية الأفلاطونية في أن يفهم الفرد في اكتسابه لفضيلة "الاتزان" وقد يكون هو الرأي السديد عندما تكون المعاني المطروحة للبحث لا تخرج عن إطارها النظري، فعندئذ يمكننا أن نرسم صورة الدولة المثلى فنرى في جنباتها كيف يكون الفرد الأمثل من أفرادها.
أما إذا كانت الصور المطروحة للبحث مأخوذة من واقع فعلي محسوس بكل ما يشوبه من نقص ومن تشويه، فإن ذلك المنهج الأفلاطوني لا يسعفنا، ويكون – حينئذ – علينا أن نعكس طريق السير، فنرى الأفراد في نقصهم، لنخلص منهم إلى تصور الدولة التي تسودهم في أوجه نقصها الذي يعكس بالضرورة نقص الأفراد، إذ الأمر - كما قيل – هو أنه كيفما يكون أفراد الناس تكون الدولة التي تولى عليهم، وفي الأثر جاء ( كما تكونون يولى عليكم ). وإني لأزعم أن معظم الناس إلا من رحم يفلت من بين يديه زمام العقل – أفرادا ودولا – حيث تتجمح عنده العاطفة وشهوة الأنانية جموحا عظيما يحجب عنهم رؤية الأهداف واضحة، ومن ثم فهم يسدون أمامهم سبل الوصول، ومع ذلك فهم يصمون آذانهم عن تتيبع سماع النصيحة أو النقد، حتى لو مصلحته متعلقة بذلك النقد أو تلك النصيحة. وهناك فرق كبير بين من يركن إلى عقله ومن يركن إلى وجدانه، فأولهما: يعلم أن أحكامه معرضة للخطأ، ولذلك تراه لا يكف عن مراجعتها، ثم هو لا يغضبه أن يظهر له في الناس من ينبهه إلى مواضع الخطأ في تلك الأحكام، وأما ثانيهما، فلأنه واهم بأن إدراكه الواجداني منزه عن الخطأتراه يقدم إقدام الواثق ويصم أذنيه عن نقد الناقدين – حتى لو كان في الاستماع إلى النقد نجاته – وعندئذ قد تدهمه الداهية من حيث لا يحسب حسابها. إننا نمنح الصدارة لعواطفنا في أحكامنا وسلوكنا، ونفاخر الناس بأننا كذلك، ولنعلم - قبل ألا يأتي ونندم أننا ما تعلمنا – أن عواطفنا آخاذة وخوانة، وأنها تخطئ كما تخطئ العقول والجوارح، فو كنا نتعلم من أخطائنا كما تتعلم فئران التجارب لجاز أن يكون لنا اليوم موقف آخر، لكننا نصرّ على الركون إلى العاطفة إصرار الفراشة على النار الحارقة.